كيف يمكننا تعريف أو مقاربة الغناء الحديث في العالم العربي؟
يمكن أن نجنح لكثير من التوصيفات العلمية والخلفيات التاريخية التي لا أريد أن أحشو بها تلك المساحة. من ناحية، هي متاحة لمن سعى، ومن ناحية، تكمن بعض الرؤى في الشقوق بين تعريفين وحقيقتين. لذلك سأكتفي ببعض ملاحظات تختزل قراءة شخصية وبعض الخبرة العملية دارت كلها بين المراجع النظرية والكواليس المهنية.
للغناء الحديث مكان بين مفهومين: الأول فني والثاني اجتماعي. الفني معني بتغير طال الشكل والمضمون. والاجتماعي معني بالسياق الذي أحاط بهذا التغير فدفع نحوه أو لازم مساراته ووجهها في بدايات القرن العشرين.
هو بالمعنى الفني انتقال من صنعة تتوفر لمتلق يسعى إليها، لصنعة تسعى لمتلقيها. ومنه انتقال آخر من صنعة تكسب جاذبيتها عبر استعراض فرادتها، لصنعة تكسب جاذبيتها من قدرتها على الاندماج بين جماهير، أن تكون صوتا لهم. ومنه انتقال ثالث؛ من صانع تنفق على موهبته ثروات إقطاعية، لصانع تنفق على موهبته شركات الإنتاج الرأسمالية، لصانع تنفق على موهبته أرقام متابعيه على فيسبوك.
بالمعنى الاجتماعي هو الغناء الذي انتقل لجماعات وشعوب عبر وسائط السمع ومن بعدها وسائط المشاهدة. وهو عبر تلك الوسائط شريكا في تصنيع ما لتلك الجماعات من ذوق وتفضيلات، من رأي واتجاهات، من مشاعر، ومن ذات. عبر قدرته الواسعة على الانتقال، أساسا لخفته وقصر زمنه، عبر الغناء حواجز المكان والزمان، وحواجز المنع والقمع، وكذا حواجز الذات نفسها. فالانتقال يحقق الوفرة، والغناء هو فن وافر ومتوفر، منذ كان عملا يقدر عليه الشخص منفردا حين يغني لنفسه، وحتى أسطوانة المحترفين، وصولا لعصرنا الذي نطالع فيه الأغاني على رأس ما نطالع كل صباح عبر حساباتنا الشخصية.
تبلورت الرؤى في مسارات الغناء الحديث ومعانيه الفنية والاجتماعية حتى صاغت صراعا أو تناقضا بين التجاري والفني. تناقض فرضته علينا أدبيات صحفية ومثقفون لم يكترثوا كثيرا لتاريخنا الوجداني والديناميات التي شكلته منذ مطلع القرن العشرين. هؤلاء يتجاهلون أن موسيقى القرن العشرين هي البوب (الغناء الجماهيري). وهو فن موسيقي قائم بذاته، ساد قرنا بأكمله؛ يتضمن الأعمال التجارية، والتجريبية، وحاملة صبغة التمرد على الثقافة السائدة.. ما ينجح منها وما لا ينجح، ما يبيع منها وما لا يبيع. نحن إزاء نمط جديد لصناعة الموسيقى، يرتبط نعم بصناعات الإعلام والاتصالات، ولكنها لا تهيمن على كل أسرار وجوده وبقائه.
زمنيا يمكننا أن نربط الغناء والتلحين الحديث بنشأة الصناعة الموسيقية العربية، التي تمركزت في مصر منذ العشرينات والثلاثينات، واستضافت الصناع من المشرق ثم المغرب العربي، وشكّلت الهوية الموسيقية الحديثة التي تداخلت مع ذواتنا، والتي تتمايز عن الموسيقى الفلكلورية، وكذلك عن الموسيقى الكلاسيكية.
يعتبر النقاد الغربيون الموسيقى المؤلًّفة والسيمفونية بمثابة “الموسيقى الراقية” art music ، أي الرصيد الموسيقي الحضاري الذي يعتمد تقنيات نظرية وتركيبية متقدمة، والذي أنجزته عملية التحديث والانتقال نحو الدول الوطنية الحديثة بعد عصور الظلام والحروب الدموية. ويرى نقاد عرب ومستشرقين أن الموسيقى الراقية العربية هي موسيقى عصر النهضة منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى العشرينيات، تزامنا أيضا مع عمليات التحديث ثم المطالبة بالاستقلال وتكون نموذج الدولة الوطنية ما بعد الاستعمار. وهي موسيقى اقترنت أساسا بفنون الغناء والارتجال والإنشاد الديني. ولذلك لا نستطيع تماما حمل نفس الأنالوجيات والتراتبية إلى موسيقانا من حيث العلاقة بالموسيقى الراقية art music والموسيقى الشعبية popular music ، ولا فصل الغناء قسرا عن الموسيقى عند تتبع نشأته ونشأتنا معه.
لقد كوّن المطربون/الصييتة وفنون التطريب الأساس الأول للصناعة الموسيقية لدينا، ومن بينهم ظهر الملحنون أو عملية التلحين حديثا عبر المسرح الغنائي بمشاركة سيد درويش وداود حسني وسلامة حجازي، حتى ظهور الأغنية الجديدة مواكبة لعصر الأسطوانات على يد محمد عبد الوهاب ومحمد القصبجي ورياض السنباطي وزكريا أحمد ولاحقا فريد الأطرش. استكملت الأغنية في بداياتها المسار الذي يأتي الغناء فيه ثمرة لعلاقة اللغة العربية بفنون تجويد القرآن وفنون التلاوة والشعر، ثم نشأة المسرح الغنائي والدور والطقطوقة فالمونولوج الغنائي والموال ثم الأغنية. تلك الأغنية مع ظهورها من رحم الماضي النهضوي اشتقت لنفسها طريقا مستقلا، نستطيع أن نتتبع منه بدايات البوب العربي. البوب الذي يصنع عبر أشكال وصيغ موسيقية مختلفة تماما عما سبقه، والذي يرتبط بعصر الجماهير سياسيا وثقافيا، والذي يرتبط بتحولات ذاتية وتعبيرية سادت لقرن كامل حتى بدأ تفكك مفرداتها في عصرنا هذا.
الأغنية ليست فيلم نقتطع من وقتنا لنجلس نشاهده. ولا متحفا أو جاليري نقطع مشوارا لنقف أمام لوحاته ومقتنياته. ولا عمل موسيقي متطلب يمتص تركيزنا وإنصاتنا. الأغنية أبسط ومن هنا أعقد فيما تأخذه من أبعاد اجتماعية وذاتية. نافذة ومراوغة وتلبس أثوابا تجعل تعقبها مستحيلا، وبأثوابها المتنوعة تعرفنا على أبسط ذواتنا وأغربها، وأكثرها إثارة ربما لجزعنا. لماذا نجزع كلما وجدنا أنفسنا ندندن الأغنية التي قلنا بثقة أننا كرهناها عند الاستماع الأول؟ أو تداهمنا من الذاكرة أغنية لم نحمل لها تقديرا خاصا بعد سنوات من تخيلنا أننا نسيناها؟ نجزع من رقص أجسادنا وفضولنا نحو أغنية “مبتذلة/ هابطة” كما تعلمنا، ونجزع من اختراق أغاني لا ندركها أصلا لأسماع أجيال تسبقنا أو تلينا.
هنا يختلط الاجتماعي والفني كثيرا حتى لا نعود نميزهما. من حيث تذوق الفنون هما دوما مختلطان، وفي حالة الأغنية العربية هنا، اختلاطهما أقوى دلالة، ببساطة لأن الغناء في بلاد الممنوعات اللانهائية كان نافذة للمسموح. بقدر ما استطعنا أن نسمح، بقدر ما استطعنا أن نحلم، كان الغناء الفن الشريك؛ ولنقل أنه الفن الذي عرّفنا على الموسيقى وليس العكس. ويوم اكتسبنا القدرة على صناعة التسجيلات، وخرج الغناء من نطاق المسارح والملاهي التي تستلزم حضورا حيا، واجه التحريم والحرب، ككل فن سريع الانتشار والتأثير الاجتماعي، وككل فن حسي يقارب الجسد وخلجاته وتطلعاته، كالرقص. واجه الغناء كارهيه بنزق فنانيه، وبولع جماهيره. تربى الغناء بين معاركنا الثقافية والسياسية والاجتماعية، وبدوره ربّانا.
تحديث الخطاب وحداثة الأغنية
أي خطاب مكتوب أو مرئي أو مسموع يشتمل على ثلاثة مستويات: الشكل (الألفاظ والمعاني المباشرة)، والمضمون (أي المحتوى أو الرسالة)، والضمني/ المتضمن (المتضمن في إشارات ومنطوقات لا تصل عبر اللغة المباشرة وإنما التركيبات اللغوية والدلالات الفنية والمجازية). كذلك الأغنية؛ بكل عناصرها هي خطاب، وعبر تلك المستويات الثلاثة هي تخاطبنا. لذلك يمكن دائما تتبع تحولات هذا الخطاب ضمن عملية تحديث مستمرة.
التحديث عملية انتقائية وإجبارية في آن، بمعنى أنها تخضع لرؤية أحد الأقطاب الفنية التي تتمتع بمكانة / سلطة، وكذلك برؤية شاملة لمختلف التيارات وإنتاجها والجمهور المتلقي، ثم تشرع تلك الأقطاب في تحديد الجدير بالاستمرار والاستثمار في تحسينه، وما يتعيّن إهماله أو إقصاؤه. من هنا يجوز النظر لرحلة إنتاج الأغنية العربية الحديثة كحلقات تطورية. كون لحيوات انتظمت من عصر الصناعة البازغ في مصر في الثلاثينات؛ حيوات تصارعت وأبدعت ثم اندثرت ثم استجمعت رمادها تتعيش على غباره، ثم صخبت وتشوشت، ثم ربما صارت نسخة أو نسخا، ثم تفجرت من داخلها، فلم يعد لها نصا، أو نسقا.. وداعا للقراءة الواحدة.. مرة وإلى الأبد.
وهي في مرورها ورحلتها رهينة صعود موجات التحديث في المجتمع وانحسارها، فورانها وركودها، نخبويتها وشعبويتها. نشأة الصناعة تعني تحولا في آلية الإنتاج والتوزيع، وتوسعا للعمالة، وإدماجا لقاعدة أوسع من المتلقين. بالنسبة للإبداع الذي يقتفي أثر الحرية وبعض الهواء، تزيد الصناعة القيود كما تفتح النوافذ. لذا فالأغنية تراوغ من بين ثقوب العملية الميكانيكية وفي ثناياها. تنتزع اعترافات، وتعرّف ذوات على بعض ذاتها، وتستدعي غربة ذوات عن ذاتها… ولكن ما الغناء الحديث إن لم يكن بعض صورة عن ذات جموع، وأخلاقها بينما تتطور/ تتغير/ تهبط/ أو تندثر هي الأخرى. شغاف حنينها للماضي بينما تمضي- بمشقة- تعاين حاضرها الصعب.
لا يسهل إذن فصل الغناء؛ مبناه ومحتواه عن هؤلاء الذين يستدعونه من منتجين ومستمعين، يحددون له وظيفته، يستخدمونه ويلوون عنقه، يجبرون به جروحا أو ينكروها، يعيدون عبره رواية الواقع حتى يصعب أن يبين لمن يعايشوه، يعانقونه ويتدثرون به، يربت على ما يخفون، يهيج ما يدارون، ويضعهم دوما أمام الحسرة الأزلية؛ كثير يتسع له الوجدان، وقليل يبقى في اليد.
لا يسهل أيضا هنا تعيين الفاعل أو المفعول به في صورة فنان وجمهور. ما أن تنتظم الذرات في مدارات الصناعة، تكتسب سرعتها وفق قانون في معظمه كوني وسار. الصناعة أيضا تسير المسارات، تجعلنا نبكي ليلى وأطلالها، لأننا جميعا نتكئ على الحنين.. والحنان. ثم نسبها ونتمنى أن نفارق أسر صورتها الرومانتيكية، فتلبس المطربات البدل الرجالية (ربما لتقليد مادونا التي حملت للبوب في أمريكا تغييرا ثوريا جديدا؟!).. ماذا يعني أن تظهر سميرة سعيد في مصر الثمانينات مرتدية رابطة العنق، هي نموذج لأي نساء؟! بالتأكيد لا يمشين في الشوارع، لا نراهن، ولا يصرحون “عاشقة” كما أطلقت الإسم بسيطا هكذا على ألبومها. لماذا خلعت فساتينها الطويلة المرصعة، وحررت شعرها من شينيون يجذبه للخلف؟ هي ليست هن. وفي عرف الصناعة هي تتابع ما يحدث في الغرب لتقلده، لتحقق الإبهار/ المبيعات/ الاستمرار.
أما هن؛ بنات وسيدات عصور التراجع، المبعثرات بين خطابات الصحوة الإسلامية التي تحتقر حتى سيرهن في الطرق، وبين واجبات لا تنتهي حتى تتولد عنها واجبات جديدة. تدخلن المدارس وأحيانا الجامعات وتبحثن عن عريس، عن هروب من أسر الأهل لأسر الزوج. وبين الأسرين أفراح سريعة التبخر؛ أفراح حب وتعلق، مكالمات تليفونية تنتظرنها بينما تستمعن ل “عاشقة.. يمكن أيوه.. يمكن لأ”. في هذه المساحة الحائرة، والوقت المسروق، وقت يمنحه الزمان بسخاء، ثم يعود ليختطفه، يذكرهن دائما أن محطات الاستراحة منحة، بل أغلى منحة، تلك التي نعرف ميعاد فقدانها وهي بين يدينا. فقط داخل هذه المساحة يمكن أن تصبح “أي فلانة” هي سميرة سعيد.
لا تترك هذه الحركة ذهابا وإيابا بين الغناء والمجتمع مساحة أيضا للحكم الأخلاقي. الحكم بالجودة أو الرداءة بالإضافة لنسبيته فهو حكم لا يعي أي غناء يشكل ماذا لمن. كثير من النقد والاستبعاد الذي وجه لموجات الغناء المتعاقبة في بداياتها يذوب قرب نهايتها، بل يتحول لبكائيات جديدة على ما مضى في مواجهة الجديد البازغ، الذي هو حتما إلى الأسوأ.
الهيمنة الغنائية المصرية.. بداية ونهاية
مصر هنا حالة مركزية للهيمنة الثقافية طال زمنها فارتبطت بها معظم الظواهر الغنائية العربية في وقت معين، وتأثرت بمسيرتها في صناعة الأغنية وأشكالها وتعبيراتها. وهي حالة بدأت تتلاشى مركزيتها تدريجيا منذ نهاية السبعينيات. ولكن هذا التحرر من المركزية كان موازيا لسؤال ظهر في مصر نفسها، واشتعلت المعارك حوله. وهو سؤال أين ذهب الطرب الذي انشغلنا به بعد وفاة عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش والنهاية التدريجية لعصرهما. سؤال توازى مع ظهور جيل كامل شهد انحسار تياره في وقت شبابه وعطاؤه، يسمى الآن “جيل الوسط”.
توقع مطربو هذا الجيل أن يكونوا حملة الراية، كبار اليوم بعد رحيل كبار الأمس، الذين فرضت نجوميتهم حجبا تحول دون رؤية ما بعدهم ومن بعدهم. ولكن جيل الوسط لم يلمع طويلا، وهو خبر مفجع بالتأكيد، أن تشهد النجاح الكبير ثم الفشل في الوصول، ثم التحول ل”أحدهم” الذي يقدر فقط على نوع “متوسط” من البقاء، نوع “متوسط” من الشهرة. أطلق عليه “جيل الوسط” .. ربما من فرط النحس أن تبقيك حتى الأسماء معلقا هكذا.
نجاح قصير بعد الخروج الحذر من عباءة عبد الحليم حافظ، التي انخلعت ببطء عندما تيقن الجميع أنه مات (هل يموت عبد الحليم بسهولة هكذا؟).. وحضور لفرق ومجموعات موسيقية بدأت تتشكل وتسعى لتغيير وجه الموسيقى السائدة بعد ترهل أصاب الأغنية الطويلة ومطربيها، وملل أصاب تكوين الفرقة الموسيقية الموسعة التي صاحبت كبار المطربين في عصرهم الذهبي.
ولكن وسيطا صغير الحجم كبير المساحة دعم هذا التحول: الكاسيت. لقد كان الكاسيت وانتشاره أول خروج حقيقي على أغنية المؤسسة المصرح بها رقابيا؛ يتسلل إلى كل أذن، يختلي بها منفردا، ويخلق علاقاتها الجديدة بالبلاد وخارجها. حمل الكاسيت أصوات الغرب كما حمل صوت أحمد عدوية وأشعار حسن أبو عتمان (زحمة يا دنيا زحمة)، وبين الغربي والشعبي جيل وسط وفرق جماعية تتفاعل مع ما تسمع وما ترى.
بالتأكيد انحرف المسار نحو الغرب هنا، والجميع سيغرق هنا، كثير من إرث الماضي وتقاليده تتغير. وجوه الماضي في الإعلام والثقافة حاضرة لا تزال، تتساءل عما تبقى من ذاكرتها؛ عن التغريب عبر التوزيعات الموسيقية التي لا يستسيغونها، وعن الفرقة الموسيقية الصغيرة (الباند) التي تصاحب فرقا جماعية تغني مزيجا من بلوز وروك، وتضع كلمات عربية على موسيقى بدت كإشارة على موجة جديدة؛ تخاطب اليومي، وتتعاطى بسخرية مع الكليشيهات المستقرة، تماما كما تبدو ملابس هؤلاء، وجيتاراتهم، وشعرهم الرجالي المنساب على الأكتاف.
من هنا بدأ العصر الثاني للأغنية الجديدة. ظهر الكاسيت معلنًا بداية النهاية لعصر سيطرة المؤسسة الرسمية على أدوات الإنتاج. اقتحمت الآلة الكهربائية والاستوديو المطور عملية صناعة الموسيقى، وتوفّي الكبار ومعهم الأغنية الطويلة كآخر ما يمكن إلحاقه بعصر الأغنية الجديدة الأول.