عصر الكاسيت: ما بعد هزيمة مشروع الصوت الواحد

على الصعيد السياسي، هذا نتاج عصر ما بعد ١٩٦٧، حيث هزيمة عسكرية ثقيلة بدأت موجة من النقد والتشكك بشأن نظم حكم سادت في حقبة ما بعد الاستعمار. ومجتمعات بدأت تفسح لها الحرب الباردة وأخبارها طريقًا لمقارنة المعسكرات الاشتراكية والرأسمالية. واتفاقية سلام مصرية مع إسرائيل تقطع مصر عن المحيط العربي المتواصل معها ثقافيًا عن قرب في لبنان وسوريا وفلسطين، وعن بلدان المغرب العربي، ثم تعليق عضوية مصر في جامعة الدول العربية ١٩٧٩.

كانت سياسات “الانكفاء على الذات” المصرية واتفاقية السلام إيذانًا بتشكّل معسكرات وقوى جديدة ستؤثر على حالة الإنتاج الثقافي كليًا في المرحلة التالية. المال العربي واتجاهاته هو مرشدنا هنا. من ناحية، يمول معسكر الممانعة إنتاجه الثقافي في العراق وسوريا وليبيا، ويحشد تحالفاته في لبنان ومصر وإيران الإسلامية. من ناحية أُخرى، استثمر الثقل المالي الخليجي في تصعيد التيارات الوهابية ومساندة تيار الإسلام السياسي في مصر ومن بعدها باقي المنطقة، متنحيًا عن مشاركة فعالة في المجال الموسيقي.

في مصر كانت السبعينات زمن وداع الكبار في مجال الغناء، من رحلوا بأجسادهم مثل عبد الحليم حافظ وأم كلثوم، ومن خرجوا من المنافسة تدريجيًا أمام عصر جديد بدأ يزحف على زمن يتآكل، متمثلٍ في أغنية طويلة مترهلة لا يزال يحاول بليغ حمدي تقديمها بينما عينه تلمح أفولها، باحثًا عن أجيال شابة من المطربين تولد على يديه (علي الحجار / محمد الحلو / عفاف راضي). لكن سرعان ما كونت مجموعات شابة فرقًا جماعية تمثل مشروعًا طازجًا لموسيقيين كانوا بالفعل قد عملوا مع كبار المطربين كعازفين وملحنين (هاني شنودة / عزت أبو عوف / عمر خورشيد / عمار الشريعي)، أو عملوا في فرق جماعية تستعيد وتنتج أعمالًا غربية بالإنجليزية (لو بيتي شا).

ظهرت الفرق الجماعية بصيغة موسيقية مختلفة، تشابه الباند الغربي في تكوينه ولكنها تعتمد صيغًا موسيقية وشعرية تختلف باختلاف أصحاب المشروع من حيث اقترابها وابتعادها عن الطابع الشرقي والتيمات الغنائية الدارجة. ظهرت المصريين على يد هاني شنودة بمشاركة استراتيجية من صلاح جاهين في رسم خطها الغنائي، والأصدقاء على يد عمار الشريعي بمشاركة مشابهة من سيد حجاب، وطيبة بمشروع موسيقي طموح للأخوين حسين ومودي الإمام، والفور إم على يد عزت أبو عوف مقدمةً أقرب الصيغ لمعنى الباند الغربي الخفيف الذي يستعين بروح شعبية، شارك في صناعتها خفيف الظل لاذع الموهبة حسن أبو عتمان الذي تشارك أكبر نجاحات أحمد عدوية.

لم تجتح الفرق الجماعية السوق المصري فقط، على التوازي كان المغرب العربي يقدم تجارب هائلة لتفكيك وإعادة إنتاج الألوان الفلكلورية للجماعات السكانية المتنوعة، مثل الغناوة والملحون في المغرب (ناس الغيوان / الترزات الذهبية وفراج الله)، وموسيقات الراي والموسيقى البدوية والقبائلية والشعبي في ليبيا والجزائر (فرقة الموسيقى الحرة / أحمد فكرون / الهاشمي قروابي / نجيب الهوش). في الجنوب كانت التجربة الجماعية لفرقة العقارب والمطرب سيف أبو بكر تقدم رؤية متقدمة وناضجة للتعاطي مع الإيقاعات والأغنية السودانية من مدخل الجاز، تجربة تمددت في مصر بظهور مشروع محمد منير والملحنين أحمد منيب وهاني شنودة ويحيى خليل، كمعالجة إنتاجية تجارية تبني على تجارب أكثر محلية تسبقها، خاصةً تجربتَي البحر أبو جريشة وعلي كوبان.

ربما بانزواء حالة الاحتفاء القومي بوحدة عربية متوهمة وقسرية، أصبحت التيارات الشابة في المجال الفني والثقافي متحررة من إرثها التعبوي الذي كُرست له جهودها في الخمسينات والستينات، واتجهت بعيدًا عن مؤسسات الإنتاج الرسمية تحاول استكشاف الجذور المتنوعة لمجتمعاتها المحلية، مع عين مفتوحة على تيارات الموسيقى العالمية وتوزيعاتها، فولد عصر الفرق الجماعية القصير الذي حمل نواة تغيير جذري للحالة الموسيقية السابقة عليه. سنختزل الكثير من الأسماء لو حاولنا مراجعة عدد الموسيقيين والمطربين والكتاب الذين أفرزتهم تلك المشاريع الطموحة، وأغنيتهم التي حملت بقدر الحلم الموسيقي حلمًا تحرريًا أصبح قادرًا على التجمّل بهوياته المتعددة.

 

ربما بانزواء حالة الاحتفاء القومي بوحدة عربية متوهمة وقسرية، أصبحت التيارات الشابة في المجال الفني والثقافي متحررة من إرثها التعبوي الذي كُرست له جهودها في الخمسينات والستينات، واتجهت بعيدًا عن مؤسسات الإنتاج الرسمية تحاول استكشاف الجذور المتنوعة لمجتمعاتها المحلية

الأغنية الملتزمة.. رجوع على المفهوم والأثر

في دول المشرق (التي تقع في قلب صراعات الممانعة وأعدائها والحرب الأهلية اللبنانية كذروة أفقية ممتدة) ظهرت “الأغنية الملتزمة” لتستوعب طلب شباب المشرق على الإنتاج الجماعي عبر الباند، كتكوين يختلف عن الفرقة العربية الموسعة التي صاحبت المطربين في المراحل السابقة. وضع مؤسسو التيار إطارًا في معظمه أيديولوجي لمشروعهم الفني. يتمحور حول الرسالة الغنائية المتحررة من سيطرة المؤسسة الرسمية وفنانيها (أطلقوا عليهم لقب مطربي الأنظمة)، والتي تلتزم بقضايا مجتمعاتها، بإشارة متكررة لكثافة المنتجات الفنية المعتمدة على دعم الدولة والبعيدة عن مساندة القضايا الجماهيرية والإشارة للمآسي الاجتماعية والسياسية التي يحياها المواطن العربي.

سارت الأغنية الملتزمة – باستثناءات قليلة – نحو التعميم الذي يركز على صوت نضالي في مواجهة تخاذل الأنظمة السياسية، أو يعين هذا الصوت متحدثًا باسم الجماهير في صيغة تستدعي الجماعة بالأساس لتثور أو تغير أو تزأر بالاحتجاج. كان هذا المسار مناقضًا تقريبًا للتوجه في مصر والسودان والمغرب العربي، حيث جنحت الفرق الجماعية (باستثناء مشروع الشيخ إمام) للتعبير عن قضايا داخلية تهم مجتمعاتها برغم تضييق أمني محتمل دائمًا على حفلاتها الحية وظهورها الإعلامي. أعادت النظر في علاقة الرجل بالمرأة ونظرة الشباب للسلطة الأبوية والتنوعات السكانية والحريات المقموعة والأوضاع الاجتماعية، محررين أنفسهم من هيمنة خطابات التذويب والصهر، مارقين نحو اجتراح ما استمر تجاهله طويلًا من تغيرات اجتماعية وجيلية، واحتجاجات تطال ما طمسته الدولة القومية الضاغطة من هويات ولهجات وتراث ثقافي جماعي.

انتقلت عدوى الأغنية الملتزمة تدريجيًا إلى بلاد أخرى مثل المغرب (سعيدالمغربي / المشاهب / السهام / ألوان) وتونس (الفرقة العمالية – لطفي بوشناق) والجزائر (معطوب لوناس)، وبشكلٍ ما اكتسحت في طريقها المشاريع الجنينية الأخرى للفرق الجماعية في مصر، التي لم تمتلك بنية إنتاجية قوية تسمح باستمرارها.

 

ربما كانت اللحظة التالية لنكسة ١٩٦٧ فرصة لاحت بالتحديد لمشهد موسيقي جديد في مصر، تصبح فيه مركزًا لتيار جديد كما كانت مركزًا ألهم ودعم صناع الأغنية الجديدة الأولى، من المصريين وغيرهم. لكنها فرصة هزمتها الضغوط الاقتصادية وتوجهات رأس المال العربي في المنطقة، لتخلق وتدعم الأغنية الملتزمة أو تنكص عن دعم غيرها. وهزمتها من ناحية أخرى سوق إنتاجية وإعلامية في مصر نفسها، تتعيش على ابتذال الشعارات القومية وتستبيح خصومها باستخدامها في التشويه والإدانة، ما أنتج مناخًا معاديًا خلال الثمانينات للفرق الموسيقية الحرة، التي واجهت تضييقات أمنية وإنتاجية مستمرة أجهضت طاقتها وحالت دون استمرارها ومرورها إلى الجمهور الأوسع لتستطيع تثبيت وجودها فنيًا. أحيانًا تتلو النكسة فرصة، الفرصة هنا كانت عودة لأحد جواهر وظيفة الغناء والموسيقى الشعبية الجماهيرية، وهو دورها في مشاركة الجماعة البشرية صوتها، أو الخروج بصوتها إلى حيز جمالي متجدد يصل ماضيها بحاضرها وينجدل بين ذكرياتها وثقافتها ودندنتها اليومية. لكن آخر محاولات استكشاف صوت مصري الطابع وحديث النكهة كانت شبه ضحية لمنطقتها الأوسع وضيق أفق محيطها الداخلي، انقطعت بعدها مصر عن فرصتها، وكذلك عن مركزيتها، والأهم: عن صوتها.

لكنها فرصة هزمتها الضغوط الاقتصادية وتوجهات رأس المال العربي في المنطقة، لتخلق وتدعم الأغنية الملتزمة أو تنكص عن دعم غيرها. وهزمتها من ناحية أخرى سوق إنتاجية وإعلامية في مصر نفسها، تتعيش على ابتذال الشعارات القومية وتستبيح خصومها باستخدامها في التشويه والإدانة

حميد الشاعري.. ثورة على الأسلوب

 انتهت التجارب الجماعية قبل نهاية الثمانينات لصالح المشروعات الغنائية الفردية. والمفارقة أن غناء الجماعة حمل للفرد تأملات بشأن وضعه الاجتماعي وحقوقه وحرياته داخل مجتمعه، بينما أعاده غناء الأفراد لتقمص أزمات الجماعة العربية ككلية تسعى لتماه كامل في حالة الأغنية الملتزمة. توازت النهاية مع صعود نجم حميد الشاعري ونجاحاته التجارية الواسعة

 

 في مصر، والتي فتحت الباب لعودة الاستثمار في صناعة الموسيقى والغناء على نطاق اتسع في التسعينات، برعاية رأس المال الخليجي الذي انفتح على السوق الإعلامية والقنوات الفضائية بالتوازي مع استثماراته الضخمة في مجال القنوات الدينية. حيث ظهرت من خلالها تائبات الثمانينات واعظات، ودعمت طوفان الدعاة الجدد الذي حظي بسيطرة طاغية على المجالَين الاجتماعي والفني في مصر.

بدا الغناء على يد حميد الشاعري لا يحتاج لكل هذا الحذر الذي شغل أدمغة ‫“جيل الوسط‫” والأمزجة التي حاول مقاربتها. هؤلاء لم يهتموا أصلا بمفهوم ‫“اللي مالوش كبير يشتريله كبير‫” إلا في شقه الأول، الرسالة كانت ‫“نعم، احنا اللي مالوش كبير‫”. واشتد الهجوم ضراوة، وانهال مخضرمو الإذاعة والتليفزيون والإعلام سبا ولعنا صار معه ‫“جيل الوسط‫” ملاكا يقارن بشيطان. حاول الجميع المحاولات؛ الهجوم، التشويه، الشائعات (عمرو دياب مصابا بالإيدز)، لا اعتماد في الإذاعة ولا التليفزيون، لن تذاع تلك الأغاني على الشاشتين الوحيدتين اللتين تبثان ‫“الذوق‫”. لن نعترف بهذا الذوق.

 

في هذه المفارق تقول الصناعة كلمتها، سأصنع هذا “الذوق” لأني أرى جمهورا يطلبه. وسيحتار المثقف والناقد؛ أهي مقرطة كما أطالب عادة؟ أم أنا لست ديمقراطيا بما يكفي؟! أم إفساد وهدر لذوق صنع على يدي وأمام عيني- لعمري؟ لن نعرف الإجابة الموضوعية عن هكذا سؤال أبدا: أهي قسوة آلة الصناعة عندما تتوخى أن يموت شيء ليحيا شيء؟ أهو حكم نخبة النقاد على ما يطلبه الجمهور وبالتالي هم دعاة الماضي المستبدون؟ أهو محض شعور جارف باندثار ركن من أركان الذاكرة يخلق هذه الأحكام من جيل إلى جيل، ومن موجة إلى موجة؛ دورة دائرة؟

الرسالة كانت ‫“نعم، احنا اللي مالوش كبير‫”. واشتد الهجوم ضراوة، وانهال مخضرمو الإذاعة والتليفزيون والإعلام سبا ولعنا صار معه ‫“جيل الوسط‫” ملاكا يقارن بشيطان.

 

وهنا يعن سؤال عن القطيعة وأسبابها‫… وهل كانت أجيال نهاية الثمانينات وبداية التسعينات شديدة الاغتراب حقا عن أجيال ثورة الأغنية الجديدة في الثلاثينات‫: محمد عبد الوهاب وأم كلثوم والقصبجي وزكريا أحمد والسنباطي وغيرهم؟

لو كان المعيار هو الغناء الشرقي فلماذا لم تعتمد أبدا الأغنية الشعبية التي نجحت على هامش كل هذا التحول (للغرب!) في خلق نسق خاص “وشرقي” واحتفظت به، وكانت أيضا من المتمسكين بالأثر… بشكل ما‫. يبدو هنا التحول للغرب‫- على بلوته‫- أكثر قبولا لطبقاتنا الوسطى ونقادها من نجاح ‫“شعبي‫” يقوده مغامرون أقرب لسائقي الميكروباص منا، يصعب في النهاية أن نتبناه. وهنا معيار آخر مهم: الصراع على تشكيل الذوق وموازين القوة التي تتحكم فيه. حتى لو فشل ‫“جيل الوسط‫” في النجاح، سينجح حميد الشاعري بأصوات جديدة، وهي لا تستطيع الغناء كما تعودنا، ولا كما يقبل النقاد، ولكننا نحتاج لصيغة، نحتاج لفتيات وشبان طازجين، ولنكن أكثر صراحة‫: نحتاج لنموذج واحد في عالمنا ينجح دون مباركة الكبار‫.. بل ينجح بالرغم من عدم رضا ‫“الكبار‫”.

 

 

 

مقالات